فقه الأسرة
الشيخ الدكتور عبدالمجيد بن عبدالعزيز الدهيشي
الحلقة الثانية عشرة
(أحكام الخطبة 3)
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمد وعلى آله وصَحبِه أجمعين، أمَّا بعدُ:
فمُستمعيَّ الكرام، أُحيِّيكم بتحية أهل الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بكم في حلقةٍ من حلقات فقه الأسرة، وقد سبَق معنا في الحلقة الماضية الإشارةُ إلى أنَّه يسوغُ لِمَن كان لديه بنت أو أخت في سِنِّ الزواج أنْ يعرضها على مَن يتوسَّم فيه الخيرَ، وتتوفَّر فيه الخصال المطلوبة في الخاطب، وأنَّ ذلك لا يُعتَبر عيبًا في حَقِّ المرأة ولا مَنقَصةً في حَقِّ أوليائها، وقد فعَل ذلك عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - حين عرَض ابنته حفصة على عثمان ثم أبي بكرٍ - رضي الله عنهم أجمعين - وأشرتُ إلى أنَّ للخِطبة أحكامًا؛ منها: حُرمة أنْ يخطب المسلم على خِطبة أخيه المسلم، فمَن خطب امرأةً وأُجِيب إلى ذلك حرُم على غيرِه خِطبتها، حتى يأذَنَ بذلك أو يرد.
مستمعيَّ الكرام، ومن أحكام الخِطبة أيضًا جواز رؤية الخاطب لمخطوبته، قال الإمام ابن قدامة - رحمه الله تعالى -: لا نعلمُ بين أهل العِلم في إباحة النَّظر إلى المرأة لمن أراد نكاحَها خلافًا؛ لما روَى جابرٌ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا خطَب أحدُكم المرأةَ فإنِ استَطاع أنْ ينظُر إلى ما يدعوه إلى نِكاحها فليفعل))، قال جابر - رضِي الله عنه -: فخطبت امرأة فكُنت أتخبَّأ لها حتى رأيتُ منها ما دَعاني إلى نِكاحها فتزوَّجتها؛ رواه أبو داود.
ولَمَّا أرادَ المغيرة بن شُعبة - رضي الله عنه - أنْ يتزوَّج امرأةً قال له النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اذهبْ فانظُر إليها؛ فإنَّه أحرى أنْ يُؤدَم بينكما))؛ أخرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وحسَّنَه الترمذي، وأمْرُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - للمُغيرة بالنظَر إلى مخطوبته دليلٌ على استحباب ذلك.
وعن كيفيَّة النظَر إلى المخطوبة نقول: للخاطب أنْ يرى مخطوبتَه بعِلمها وإذْن وليها، وإنْ لم يتيسَّر له ذلك، فله أنْ يختبئ لها في مكانٍ تمرُّ منه، وينظرَ إليها كما فعل جابر - رضِي الله عنه - ولأنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمَر بالنظَر وأطلقذلك ولم يُقيِّده بإذنها، وللخاطب أنْ ينظُر منها إلى ما يظهر غالبًا ممَّا يراه المحارم؛ كالوجه والرقبة والشعر واليد والقدم ونحوها.
ويُشتَرط في نظَر الخاطب إلى مخطوبته: أنْ يكون بلا خلوةٍ، وأنْ يكون عازمًا على الخِطبة، وأنْ يغلب على ظنِّه أنْ يُجاب طلبه، وأنْ يكون نظره إلى ما يظهر من المرأة غالبًا، وألا تظهر المرأة متبرِّجة أو مُتطيِّبة أو متجمِّلة؛ لأنَّ المقصود من نظَر الخاطب معرفةُ خِلقَة المرأة ومِقدارِ جمالها المعتاد، ولأنَّ الأصل تحريم نظر الرجل للمرأة الأجنبيَّة، وإنما أُبِيح هنا للحاجة، والحاجة تُقدَّر بقدرها.
ولعلَّكم - مستمعيَّ الكرام - تُدرِكون الحكمة الربانية في إباحة نظر الخاطب إلى مخطوبته تحقيقًا للمصلحة الراجحة المقصودة بأنْ يسعد الزوجان ببعضهما، ويتقبَّل كلُّ واحدٍ منهما صاحبه، وألا يكون هناك مجالٌ للتدليس والتغرير؛ إذ إنَّ العقود الشرعيَّة تُبنى على الوضوح والعِلم، وقد نهى الشارع الحكيم عن بيع الغَرَرِ، فمن باب أَوْلَى أنْ يُنهَى عن التغرير في النِّكاح؛ بأنْ يغرَّ رجلٌ بامرأة ذات عيوب مُنفِّرة، أو أنْ تُخدع فتاةٌ برجلٍ معيب لا تقبل به السويَّة من النساء، ومتى بُنِي عقدُ النكاح على الوضوح من أوَّله، كان حَرِيًّا بالزوجين أنْ يتحقَّق لهما الوئام، وتحصل بينهما المودة المنشودة، وما أجمل التعبير النبوي في بيان الحكمة من استِحباب رؤية المخطوبة، ((فإنَّه أحرى أنْ يُؤدَم بينكما))؛ أي: يُؤلف بينكما، وأحرى أنْ تدوم المودَّة بينكما، فتمكين الخاطب من رؤية مخطوبته قبلَ الإقدام على عقدِ النكاح يُطمئِنه على خِلقة مخطوبته التي عزَم على خِطبتها ومِقدارِ جمالها، ومعلومٌ أنَّ المُعايِن ليس كالمُخبَر.
وإذا تجاوَز الخاطب هذه المرحلة، وقَبِلَتْ به المرأة وأولياؤها وعزموا على عقد النكاح، فإنَّه يستحبُّ تقديم خُطبة قبل العقد تُسمَّى خُطبة ابن مسعود، يخطبها العاقد أو غيره من الحاضرين، ولفظها: إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، ويقرأ بعدَ هذه الخطبة ثلاثَ آيات من كتاب الله: الأولى: قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، والثانية: قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، والثالثة: قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ رواه الخمسة وحسَّنَه الترمذي، وهي الخُطبة التي تُقدَّم بين يدي الحاجة وتُسمَّى "خُطبة الحاجة"، وكان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُعلِّمها أصحابه.
ثم يُقال للزوج: "بارَك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير"[1]؛ أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن.
مستمعيَّ الكرام، عقدُ النكاح عقدٌ جليل، ووثاقٌ محكم، وعِشرةٌ زوجيَّة يُراد لها الدَّوام؛ ولذا فقد يكون لأحَد الزوجين شروطٌ يشترطها على الآخَر كي يلزمه الوفاء به ممَّا فيه مصلحة مُعتَبرة للزوجين أو أحدهما؛ ولذا أجاز الشَّرع المطهَّر أنْ يشترط أحدُ الزوجين شُروطًا على الطرَف الآخَر، وأمَر الله تعالى بالوفاء بالعُقود، والشُّروط في العُقود داخلةٌ فيها، وقد اعتنت الشَّريعة الإسلاميَّة بالشُّروط بين الزوجين، ففي "صحيح البخاري" وغيره عن عُقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أحقُّ الشُّروط أنْ تُوفوا به ما استحلَلتُم به الفُروج)).
وفي الحلقة القادمة - بإذن الله تعالى - نستعرضُ وإيَّاكم - مستمعيَّ الكرام - أحكامَ هذه الشُّروط وأقسامَها، سائلين الله تعالى الفقه في الدِّين والتوفيق إلى العمل الصالح.
والله تعالى أعلمُ وأحكمُ، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أهم المراجع:
• "الشرح الكبير".
• "الروض المربع".
• "الملخص الفقهي".
• "الشرح الممتع".
• كتب التخريج والشروح.
[size=32][1] أخرجه أحمد (2/381)، وأبو داود في النكاح/ باب ما يقال للمتزوِّج (2130)، والترمذي في النكاح/ باب ما جاء فيما يُقال للمتزوج (1091)، وابن ماجه في النكاح/ باب تهنئة النكاح (1905) عن أبي هريرة - رضِي الله عنه - وقال الترمذي: "حديثٌ حسن صحيح"، وصحَّحه ابن حبان (4041)، والحاكم على شرط مسلم (2/183)، ووافَقه الذهبي، وصحَّحه النووي في "الأذكار" (787).[/size]