[rtl][size=32]المجلس الثاني عشر :[/size][/rtl]
في النوع الثاني من تلاوة القرآن
[rtl]
[/rtl]
الحمد لله معطي الجزيل لمن أطاعه ورجاه ، وشديد العقاب لمن أعرض عن ذكره وعصاه ، اجتبى من شاء بفضله فقربه وأدناه ، وأبعد من شاء بعدله فولاه ما تولاه ، أنزل القرآن رحمة للعالمين ومنارا للسالكين ، فمن تمسك به نال مناه ، ومن تعدَّى حدوده وأضاع حقوقه خسر دينه ودنياه ، أحمده على ما تفضل به من الإحسان وأعطاه ، وأشكره على نعمه الدينية والدنيوية وما أجدر الشاكر بالمزيد وأَوْلَاه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، الكامل في صفاته ، العالي عن النظراء والأشباه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي اختاره على الخلق واصطفاه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما انشق الصبح وأشرق ضياه ، وسلم تسليما .
[rtl]
[/rtl]
إخواني : سبق في المجلس الخامس أن تلاوة القرآن على نوعين : تلاوة لفظه وهي قراءته ، وتقدم الكلام عليها هناك .
[rtl]
[/rtl]
والنوع الثاني : تلاوة حكمه بتصديق أخباره واتباع أحكامه فعلا للمأمورات وتركا للمنهيات .
وهذا النوع هو الغاية الكبرى من إنزال القرآن كما قال تعالى : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } [ ص : 29 ] ، ولهذا درج السلف الصالح رضي الله عنهم على ذلك يتعلَّمون القرآن ، ويصدِّقون به ، ويطبِّقون أحكامه تطبيقا إيجابيا عن عقيدة راسخة , قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله : حدثنا الذين كانوا يُقْرِئُوننا القرآن : عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل , قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا .
وهذا النوع من التلاوة هو الذي عليه مدار السعادة والشقاوة , قال الله تعالى : { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى }{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى }{ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا }{ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى }{ وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } [ طه : 123 - 127 ] ، فبَيَّنَ الله في هذه الآيات الكريمة ثواب المتَّبِعين لهداه الذي أوحاه إلى رسله ، وأعظمه هذا القرآن العظيم ، وبيَّن عقاب المعرضين عنه .
[rtl]
[/rtl]
أما ثواب المتبعين له فلا يضلون ولا يشقون ، ونَفْيُ الضلال والشقاء عنهم يتضمن كمال الهداية والسعادة في الدنيا والآخرة .
وأما عقاب المعرضين عنه المتكبِّرين عن العمل به ، فهو الشقاء والضلال في الدنيا والآخرة ، فإن له معيشة ضنكا ، فهو في دنياه في هم وقلق نفس ، ليس له عقيدة صحيحة ، ولا عمل صالح { أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [ الأعراف : 179 ] ، وهو في قبره في ضيق وضنك ، قد ضُيِّق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ، وهو في حشره أعمى لا يبصر { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } [ الإسراء : 97 ] ، فهم لما عموا في الدنيا عن رؤية الحق وصموا عن سماعه وأمسكوا عن النطق به { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ } [ فصلت : 5 ] ، جازاهم الله في الآخرة بمثل ما كانوا عليه في الدنيا ، وأضاعهم كما أضاعوا شريعته { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْت بصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } [ طه : 125 - 126 ]
، { جَزَاءً وِفَاقًا } [ النبأ : 26 ] ، { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ القصص : 84 ] ،
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه : « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى صلاة - وفي لفظ : صلاة الغداة - أقبل علينا بوجهه فقال : " من رأى منكم الليلة رؤية ؟ " قال : فإن رأى أحد قَصَّها . فيقول : " ما شاء الله " . فسألنا يوما فقال : " هل رأى أحد منكم رؤية ؟ " قلنا : لا . قال : " لكني رأيت الليلة رجلين أتياني " ( فساق الحديث وفيه : ) " فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع ، وإذا آخر قائم عليه بصخرة وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيَتَدَهْدَه الحجر هاهنا فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إلى الرجل حتى يصبح رأسُه كما كان ، ثم يعود عليه فيفعل به مثلما فعل به المرة الأولى ، فقلت : سبحان الله ! ما هذا ؟ فقالا لي : انطلِق " ( فذكر الحديث وفيه : ) " أما الرجل الذي أتيت عليه
يُثْلغ رأسُه بالحجر فهو الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة »
وعن ابن عباس رضي الله عنهما « أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس في حجة الوداع فقال : " إن الشيطان قد يئس أن يُعْبَد في أرضكم ولكن رضي أن يُطَاع فيما سوى ذلك مما تَحاقرون من أعمالكم فاحذروا ، إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا أبدا : كتاب الله وسنة نبيه » ، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يُمَثَّل القرآن يوم القيامة رجلا فيُؤْتَى بالرجل قد حمله فخالف أمره فيُمَثَّل له خصما فيقول : يا رب حَمَّلته إياي فبئس الحامل تعدَّى حدودي ، وضيع فرائضي , وركب معصيتي , وترك طاعتي , فما يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال : شأنك به , فيأخذه بيده فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار » ، وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « القرآن حجة لك أو عليك » ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : القرآن شافع مُشفَّع ، فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار .
فيا من كان القرآن خصمه كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة ؟ ويل لمن شفعاؤه خصماؤه يوم تربح البضاعة . عباد الله هذا كتاب الله يُتْلَى بين أيديكم ويُسمع ، وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا يتصدع ، ومع هذا فلا أذن تسمع ، ولا عين تدمع ، ولا قلب يخشع ، ولا امتثال للقرآن فيُرْجَى به أن يَشْفَع ، قلوب خلت من التقوى فهي خراب بلقع ، وتراكمت عليها ظلمة الذنوب فهي لا تبصر ولا تسمع ، كم تُتْلَى علينا آيات القرآن وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة ، وكم يتوالى علينا شهر رمضان وحالنا فيه كحال أهل الشقوة ، لا الشباب منا ينتهي عن الصبوة ، ولا الشيخ ينتهي عن القبيح فيلحق بأهل الصفوة ، أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة ، وإذا تُلِيَتْ عليهم آياته وجلت قلوبهم وجَلتْها جَلْوَة ؟ أولئك قوم أنعم الله عليهم فعرفوا حقه فاختاروا الصفوة .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : ينبغي لقارئ القرآن أن يُعْرَف بليله إذ الناس ينامون , وبنهاره إذ الناس يُفْطِرون , وببكائه إذ الناس يضحكون , وبورعه إذ الناس يخلطون ، وبصمته إذ الناس يخوضون , وبخشوعه إذ الناس يختالون , وبحزنه إذ الناس يفرحون .
يا نفس فاز الصالحون بالتقى ... وأبصروا الحق وقلبي قد عَمِييا حسنهم والليل قد أَجَنَّهُمْ ... ونورهم يفوق نور الأنجمِتَرَنَّمُوا بالذكر في ليلهمو ... فعيشهم قد طاب بالتَّرَنُّمِقلوبهم للذكر قد تفَرَّغَتْ ... دموعهم كلؤلؤ منتظمِأسحارهم بنورهم قد أشرقت ... وخِلَعُ الغفران خير القِسَمِقد حفظوا صيامهم من لغوهم ... وخشعوا في الليل في ذكرهِمِويحكِ يا نفس ألا تَيَقَّظِي ... للنفع قبل أن تَزِلَّ قدميمضى الزمان في تَوَانٍ وهَوًى ... فاستدركي ما قد بَقِي واغتنميإخواني : احفظوا القرآن قبل فوات الإمكان ، وحافظوا على حدوده من التفريط والعصيان ، واعلموا أنه شاهد لكم أو عليكم عند الملك الديان .
[rtl]
[/rtl]
[rtl]سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك نستغفرك ونتوبك إليك , ونشهد أن محمدا عبدك ورسولك , اللهم إنا نسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أوأنزلته في كتابك .أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن الكريم ربيع صدورنا وجلاء احزاننا وذهاب همومنا , وأن تجعله لنا نورا وشفيعا لنا .
وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.[/rtl]