من المعروف أن الله سبحانه وتعالى لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، ولا يفرض عبادة من العبادات أو طاعة من الطاعات إلا لغاية نبيلة وهدف جليل، يَصُب في مصلحة العبد، ومصلحة الناس من حوله. والشعائر الدينية في الإسلام لا تقتصر على الجوانب الظاهرة والمادية منها، بل تتعداها إلى مقاصد وغايات معنوية وروحية سامية، إذا تركها المسلم، أَفرغ العبادة من جوهرها، وحوَّلها إلى طقس عشوائي لا معنى ولا قيمة له.
فشهر رمضان الكريم مثلا، ليس مجرد طقس يمتنع فيه الفرد عن شهوتَيْ البطن والفرج من طلوع الشمس إلى غروبها، بل هو أيضا مناسبة يلتزم فيها المسلم بالسلوكات الحسنة والمعاملات الطيبة، ويمتنع فيها عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، كي يَحْسُن صومه ويَثْبُتَ أجره. فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالعَطَشُ)، فالغاية من الصيام تتعدى الإحساس المادي بالجوع والعطش وغيرهما، إلى الإدراك الروحي لنعم الله وأفضاله، و الإحساس المعنوي بآلام الآخرين ومعاناتهم، وهمومهم ومشاكلهم.
والمسلم الحقيقي هو الذي يسعى بكل ما أوتي من قوة، إلى ممارسة عبادة الصوم بجوانبها المادية والروحية معاً، وجعلها بمثابة تدريب سنوي لتحسين أخلاقه والرقي بسلوكه في مختلف جوانب الحياة، بالشكل الذي يتلاءم مع الحديث الشريف الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِطَعَّانٍ، وَلَا لَعَّانٍ، وَلَا فَاحِشِ وَلَا بَذِيء). فالمؤمن الحق في رمضان -وفي غير رمضان - لا يطعن في الناس وأعراضهم، ولا يلقي باللعنات هنا وهناك، ولا تصدر عنه الفواحش والبذاءة وغيرها من السلوكات المشينة والتصرفات الدنيئة.
والمسلم الحق في الأيام العادية - وفي شهر رمضان على الخصوص، لا يتحدث إلا بالصدق، ولا ينطق إلا بالخير، ولا ينقاد للممارسات المنبوذة كالكذب، والدجل، والخداع، وخيانة الأمانة، وشهادة الزور وغيرها، كي لا تنتفي معاني السلوك البنَّاء من ممارسته لعبادة الصوم، وعندئذ فلا حاجة لله بصيامه. فقد جاء في الحديث الشريف عن نبينا الكريم قوله: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ). أي من صام ولم يترك الكذب والعمل به فلا قيمة لصيامه.
والمسلم الحق أيضا، هو الذي يبتعد أثناء الصوم عن اللغو في القول، والفُحش في الكلام، ويتجنّب الرفث والفسق، فلا يُضَيِّع وقته في مجالس السوء والنميمة، ولا تضعف نفسه أمام شهوات الحياة المادية والمعنوية، ولا يدفعه سوء أدب الآخرين معه واستفزازهم له بالقول والعمل، إلى التفوه بالكلام الفاحش معهم والتلفظ بالعبارات البذيئة تجاههم، وبذلك يتحقق المقصد السامي للصوم، مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (لَيْسَ الصّيامُ منَ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ، إنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ والرَّفَث،ِ فَإنْ سَابَّكَ أحدٌ أوْ جَهِلَ عَليْكَ فَقُلْ : إنّي صَائِمٌ إنِّي صائِمٌ).
والمسلم الحق أيضا، هو الذي لا يتأثر أثناء الصوم بانقطاعه عن الأكل والشرب والشهوات الأخرى، فلا تضعف همته ولا تخفت عزيمته، فتراه هادئ النفس مطمئن البال، متحكما في أعصابه، كاتما لغضبه، كاظما لغيظه، فلا يصرخ في وجوه الناس ولا يخاصمهم، ولا يرفع صوته في وجوههم ولا يتوعدهم بغض النظر عن الأسباب والظروف، تماشيا مع قول النبي صلى الله عليه وسلم : (إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ ).
ومن خلال هذه السلوكات وغيرها، يمكن اعتبار شهر رمضان بمثابة ورشة تدريب في الأخلاق الحميدة والسلوكات الراقية، إذا استغلها المسلم كما يجب، استقامت شخصيته وانسجمت مع ذاتها ودينها ومحيطها في وحدة متآلفة، لا مكان للتصنع والرياء فيها. ليشكل المسلم بذلك، نموذجا يحتذى به في التوفيق بين العبادة والسلوك في رمضان وفي غير رمضان، وبذلك يصلح صومه، ويَثْبُت أجره ويعكسَ الصورة الحقيقية للدين الإسلامي الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم في أحد أحاديثه عندما سئل ما الدين؟ فأجاب بكل بلاغة: (الدين المعاملة).
بقلم: محمد رياض
[size=40]طريق القرآن[/size]